في صباحات دمشق الصيفية والنسيم المحمل بندى الحقول القريبة يداعب وجهك بينما تستمتع بفنجان قهوة على شرفتك المطلة على الحديقة، تطل عليك فيروز من المذياع لتقول "يسعد صباحك والمسا" لا ينقص هذا المشهد إلا رف حمام يزين السماء ويكسر حدة زرقتها. وهاهو رف الحمام يحلق فوقك كغيمة ملونة ليبعث في نفسك الرضا والاطمئنان، لكن صفيرا حادا يخرق جدار الصوت فوق بيوت الحي يتبعها رشقة من الحجارة التي قد تصيبك إحدى شظاياها كفيلة بأن تبدد لحظة الصفاء الجميلة وتعكر مزاجك بقية النهار، انه جارك مربي الحمام أو كما يسمى في دمشق "كشيش الحمام".. ونعم الجار!!
صراعات قاتلة بين"الكشاشين"
لا تكاد تخلو حارة في أحياء دمشق الشعبية من مربي حمام واحد على الأقل لكن هذه الهواية الجميلة تحولت إلى مصدر إزعاج دائم لسكان هذه الأحياء، فصوت التصفير العالي الذي يصدره «كشيش الحمام» ليجعل طيوره تحلق في السماء مسافة أعلى كفيل بأن يحرمك من القيلولة وأن يسبب لك صداعاً حاداً عداك عن الأذى الذي تسببه الحجارة وقطع الخشب التي يقذفها الكشيش على رف الحمام أو ما يسميه «الكشّـة» ليمنعها من الهبوط دون إذن، وصراعات الكشاشين في ما بينهم التي تأخذ طابعاً من الشراسة في معظم الأحيان وقد تتسبب في عواقب خطيرة. كل هذه الأمور جعلت «كشيش الحمام» يظهر أمام المجتمع بصورة المزعج المسبب للمشاكل وغير المستحب.
قتل صديقه من أجل حمامة
في إحدى مناطق جنوبي دمشق قتل"ي. د" البالغ من العمر 21 عام صديقه طعناً بالسكين لأن الأخير قد اصطاد زوجاً من طيور الحمام الذي تخص "ي.د" ورفض إعادته ومثل هذا الحوداث المأوساية تتكرر كثيرا، بل تأخذ طابع الثأر احيانا، وذلك عندما يقدم احد اشقاء القتيل على قتل احد افراد عائلة القاتل. ومصطلح الاصطياد عند «كشيش الحمام» لا يعني القتل وإنما يعني استدراج طير الحمام من كشته التي تحلق في السماء إلى المحطَ الخاص به وهو لوح خشبي مائل تقف عليه الطيور، ثم يرمي عليه الشباك ويستحوذ عليه. وهناك نوعين من العلاقات التي تنشأ بين كشاشي الحمام، الأولى تسمى «صلح» وهي عبارة عن حلف يقوم بين كشيشين أو أكثر بحيث لا يجوز أن يصطاد أي منهم طيور الآخر، والثانية علاقة «صيد» وهي تشبه حالة الحرب بحيث يحاول كل من الكشيشين استدراج طيور الآخر واصطيادها، ولا يعيدها إليه إلا مقابل فدية يقال لها «الفكاك» وطبعاً لا يتردد صاحب الطير بدفع فديته لأن طير الحمام بالنسبة إلى صاحبه في مرتبة الأولاد.
يشرب الخمر مع "حماماته"!
وهذه العلاقة الحميمة التي تنشأ بين الكشيش وطيوره التي يربيها قد تجبره في بعض الأحيان على اتخاذ مواقف متهورة. يقول "سعيد ل": عدت إلى المنزل متأخراً في أحد الأيام ووجدت باب «الخم» أي بيت الحمام مفتوح وقد تناثر ريش بعض الحمام على الأرض وحين علمت أن القط الذي كان يترصد طيوري قد نجح بالوصول إليها لكنه ذنب زوجتي التي تركت باب "الخم" مفتوحاً فما كان مني إلا أن تشاجرت معها وطلقتها فوراً. ومن المعروف عن "م.ع" أنه كلما أراد أن يحتسي المشروبات الكحولية سكب لطيوره بعضاً منها في قصعة الماء المخصصة لهم ويقول إنه لا يستمتع بالمشروب إلا برفقة أعز أصدقائه "الحمام" فتخيل منظر حمامة ترقص "سكرانة"! "أبو علاء" أحد الأغنياء المعروفين في أوساط كشاشي الحمام استأجر موظفين ليقوموا على خدمة طيوره فيقدم له الطعام والماء بانتظام وينظفون فضلاتهم بالإضافة إلى العناية بضيوفه من زملائه الكشيشة الذين يزورونه ليتفرجوا على الطيور الموجودة لديه. ومن الجدير ذكره أن ثمن طائر الحمام الواحد يتراوح بين خمسة وعشرين ليرة إلى خمسين ألف ليرة أي ما يعادل ألف دولار أمريكي وذلك حسب نوعه ولونه ومظهره.
أنواع عديدة واسماء غريبة
وقد ذكر لنا أحد المخضرمين في هذه الهواية أن أنواع طيور الحمام المعروفة في دمشق تتعدى الألفي نوع وتسمى هذه الأنواع نظراً لمصدرها "الهندي البغدادي الإنجليزي المصري" أو لونها "المسود المنمر الأبلق المبرقع" أو تشبيهاً لها لطيور أخرى " البلبل الوطواط البطريق" ومنها ما يسمى أسماء غريبة "الشخشلي الدجي البرملي طوربيد سيلفر كركندي شكلي". وفي نهاية الحديث هي دعوة لبعض باحثي علم الاجتماع لدراسة مجتمع "كشاشي الحمام" فهم بعلاقاتهم التي صاغوها بينهم ومصطلحاتهم التي تكاد تشكل لغة بحد ذاتها وخبرتهم في سلوك الطيور ما يستحق وقفة مطولة.
معقول في ناس هيك يا ريت اسمع رد لو بكلمة
مع تحياتي
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟