ليلى خالد..
أول أنثى من أجل القضية..
فلسطينية العينين والوشم.. فلسطينية الاسم.. فلسطينية الأحلام والهمِّ.. فلسطينية المنديل والقدمَين والجسمِ.. فلسطينية الكلمات والصمتِ.. فلسطينية الصوتِ.. فلسطينية الميلاد والموتِ.. فلسطينية كنت ولم أزل.. ربما يليق هذا الوصف بأول فدائية من أرض الشهداء تقوم بخطف الطائرات، تلك الفتاة "ليلى خالد" التي حملتها "النكبة" في العام 1948 مع من حملت من حيفا إلى بلاد الشتات وكانت طفلة آنذاك. على أرض الجنوب اللبناني كانت نشأتها وملعب صباها، ومن الجنوب انطلقت حاملة هم القضية الفلسطينية منذ بداية الوعي كعقيدة دافعت عنها، وهي آنذاك طفلة صغيرة كل رصيدها في الحياة أن تحلم.
فدائية من فلسطين
يزال العالم يذكر إلى اليوم تلك الشابة السمراء التي نالت إعجاب الحلفاء، وأثارت قلق ومخاوف الأعداء، بعملية جريئة في 28 أغسطس 1969 خطفت خلالها طائرة أمريكية، لتحلق بها فوق سماء تل أبيب، وتتجول على علو منخفض فوق مسقط رأسها مدينة "حيفا" التي طردت منها وهي في الرابعة من عمرها.
ما جعل قضية ليلى خالد تتحول إلى أسطورة راسخة في الأذهان أكثر من غيرها من الرموز الفدائية؛ لأن جرأتها لم تقتصر فقط على تلك العملية الأولى، فبعد عام واحد عاودت الكرة، وحاولت خطف طائرة أخرى تابعة لشركة "العال" الإسرائيلية.. لم تأبه بكون صورتها باتت معروفة واسمها مطلوبا لدى كافة أجهزة الأمن عبر العالم، فقامت بإجراء جراحة تجميلية غيرت خلالها ملامحها وتزودت بجواز سفر هوندوراسي.
بذلك استطاعت أن تغالط الأمن الإسرائيلي بمطار "أمستردام"، وتمكنت من الصعود إلى طائرة "العال" وتخطفها، إلا أن النجاح لم يحالف تلك العملية الثانية، حيث قتل رفيقها في العملية، وأصيبت هي بجراح، وسُجنت في لندن. لكن شابا فلسطينيا في دبي سمع بالخبر، وحزّ في نفسه أن تتعرض هذه الفتاة الفريدة للسجن، فاقتطع تذكرة على متن طائرة بريطانية، ولبس "مايوه" سباحة منتفخا، موهما طاقم الطائرة بأنه حزام ناسف، فتمكن من خطف الطائرة نحو بيروت، ثم إلى الأردن؛ وهو ما منح زملاء ليلى خالد في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ورقة ضغط ثمينة مكنتهم من مفاوضة البريطانيين، وإخراجها من سجنها في لندن بعد 28 يوما فقط.
عندما حلقت الطائرة التي اختطفتها فوق فلسطين وكما تقول "ليلى خالد": لحظتها رأيت وجه أبي المتوفى مبتسما وكأنه يقول لي الله معك ويحميك، إنك تحققين حلما لم أشهده. فتذكرت كيف أن أبي انتظر ثلاثة أيام بلياليها على بوابة مندلبوم في القدس 1964 ليلتقي والدته التي بقيت في فلسطين، ولم يرها علما بأنه قد حصل على تصريح للقائها، وتوفي والدي ولم يلتقِ أمه التي لم تعرف بموته.
صراع وجود
مناضلتنا أن الشعب الفلسطيني برهن عبر تاريخ النضال الذي لا يزال يخوضه منذ قرن من الزمن أن أية محاولات لجعله يتنازل عن حقوقه قد باءت بالفشل. وما الانتفاضة الأولى 1987، والثانية 2001 إلا أدلة واضحة على تصميم الشعب الفلسطيني على نيل حقوقه. وعلى الرغم من توقيع اتفاقات أوسلو 1993 فإن الصراع اتخذ شكلا دمويا بعد عشر سنوات على هذه الاتفاقيات. وتؤكد أن ما يتم الآن من عدوان على لبنان وفلسطين إنما يهدف إلى إرغام المقاومة على الاستسلام للمخطط الصهيوني – الأمريكي والمتمثل في القضاء على حزب الله وقتل روح المقاومة، وإفشال "حماس"، والتسليم بهذا المخطط الذي يعطي العدو الاستمرار في مخططه الهادف إلى السيطرة التامة على الأرض، ومنع تحقيق عودة اللاجئين إلى ديارهم في ضوء القرار الدولي 194، وعدم الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والواقع فإن هذا الصراع سيستمر بأشكال وأساليب مختلفة من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، فهو بالأساس "صراع وجود".
النساء قادمات
عن رؤيتها اليوم للنساء الفدائيات تقول الفدائية الفلسطينية في حوار أجرته معها مجلة "المجلة" اللندنية: إن دور النساء يتغير بتغير الوضع الفلسطيني العام، فنحن النساء الفلسطينيات في الخارج، في الشتات، خلال مرحلة الكفاح المسلح كنا نحمل السلاح ونقاتل مثلنا مثل الرجال، ولكن منذ العام 1982، بعد خروج المقاومة من لبنان، لم تعد هناك جبهات نستطيع من خلالها ممارسة العمل المسلح، وبالتالي صار عملنا منصبا في الجانب السياسي والاجتماعي فقط. ومع انفجار الانتفاضة الأولى، شهدنا خروج الأطفال والنساء بشكل بارز وقوي إلى الشارع الفلسطيني في الداخل.
وذلك دليل مرة أخرى على قدرة المرأة الفلسطينية على أن تكون في طليعة المقاومة. لكن الانتفاضة الأولى لم تستثمر سياسيا؛ حيث أوقفت في مقابل توقيع اتفاقيات أوسلو، التي أعُدّها هزيمة وانتكاسة للمقاومة الفلسطينية. وذلك ما جعل عمل المرأة يتراجع مجددا على الصعيد السياسي، ويتجه أكثر نحو العمل الاجتماعي. وحتى بعد انطلاقة الانتفاضة الثانية، لم نشهد بروز جموع نسوية كبيرة في مجال العمل السياسي أو الفدائي كما في السابق، كل ما هنالك حالات قليلة من النساء الاستشهاديات اللائي برزن من خلال "حماس، الجهاد، وفتح". فذلك يشكل امتدادا لمكانة المرأة في تلك الفصائل، وانعكاسا لمنهجها في الانتصار لحقوق النساء، وفتح المجال أمامهن ليبرزن في مختلف المواقع النضالية، بما فيها المواقع القيادية.
والمرأة حاليا في لبنان تقف على خط النار، وتلعب دورا أساسيا في دعم الجبهة الداخلية، ورعاية الأبناء، وفي فلسطين كذلك تقوم بالإنفاق على الأسر التي استشهد عائلوها في الحرب، وتشارك في المظاهرات والاحتجاجات... إلخ.
الواجب يملي علينا أن نكون مستعدين للقتال وللاستشهاد في سبيل الوطن، نعم.. فهذا ليس مجرد جيش وافد ومحتل، كما كان عليه الحال في تجارب الاستعمار الكلاسيكية، بل هذا عدو مستوطن استقر على أرضنا، وأقام فوقها مجتمعا ودولة، وبالتالي فإن طبيعة صراعنا معه مختلفة وطويلة الأمد. ولا يمكن لنا أن نكسب صراعا مثل هذا بالضربة القاضية، بل سنكسبه فقط بالنقاط، وبالنفس النضالي الطويل.
نعم للجماهير.. لا للرؤساء
عن البعد العربي لهذا الصراع ترى "ليلى خالد" أن هذا يستدعي تفعيل دور الجماهير العربية وقواها الحية في إسناد نضال الشعب الفلسطيني، ومواجهة النظام العربي الرسمي الذي يلعب دورا متواطئا مع القوى المعادية (إسرائيل/ أمريكا). إن قلب المعادلة لصالح شعبنا يحتاج إلى تعزيز الدور الدولي بإنشاء شبكة علاقات مع المؤسسات غير الرسمية في العالم لتشكل بدورها عامل ضغط على حكوماتها لتغيير موقفها بما يخدم القضية. وأنا أرى أن العامل الذاتي هو المحرك الأساسي للتغيير في العامل الموضوعي، وطالما هناك طفل يحمل حجرا يلقيه على الدبابة الإسرائيلية في أي من مخيماتنا وقرانا ومدننا، فإنما يدل ذلك على صراع الإرادات بيننا وبين هذا العدو. وحتى الآن لم يعض الشعب الفلسطيني أو اللبناني أصابعه؛ بل ما زال مؤمنا بقدراته على النصر وصنع المعجزات ووقوفه خلف قياداته.
وتنهى الفدائية الفلسطينية كلامها مؤكدة أنه لا بديل عن الكفاح ومواصلة المقاومة في الجنوب اللبناني من أجل طرد المحتل، وفي فلسطين من أجل استرداد حقوقنا، سواء في تحرير الأرض أو عودة اللاجئين، أو الإفراج عن الأسرى داخل السجون الإسرائيلية، أو إعلان قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.